طفولتي بين أحضان عمي المرحوم الشيخ عبد الرسول البصاره
وصفي أحمد البصاره - « محرر الموقع » - 19 / 12 / 2012م - 4:32 ص

الكتابه عن شخصيه بحجم عمي المرحوم الشيخ عبد الرسول البصاره ليس بالأمر الهين أقول هذا ليس من قبيل العاطفه ولكن حقا  ما أقول و عن قناعة تامه.

 لا أعرف من أين أبدأ وكيف أنتهي لأن كل لحظه من حياة المرحوم تحتاج إلى أن يتوقف الإنسان عندها وأن لا يمر مرور الكرام عليها. ولكن دعني أحصر كلامي هنا عن فترة ملازمتي لعمي المرحوم في سن طفولتي أي قبل أكثر من أربعين سنه أي في مرحلة شبابه حيث ربما لم يتجاوز الثلاثين من عمره

لازمت المرحوم في سني طفولتي المبكرة أي عندما كان عمري ثمان سنوات وجلست ملازما له لمدة اربع إلى خمس سنوات حيث كنت أكبر أحفاد جدي المرحوم عبد الكاظم البصاره الذكور فأمرني والدي المرحوم الحاج أحمد عبد الكاظم البصاره أن ألازم مجلس عمي لأقوم بأمور المجلس حيث وقتها أكبر أبناء عمي لم يتجاوز عمره الثالثه.

 كان مجلسه أشبه ب منتدى ثقافي يؤمه كل يوم جمع كبير من الخطباء وطلبة العلم وغيرهم نعم ليس مبالغة عندما أصف مجلسه بالمنتدى الثقافي فترى الجميع منهمك في قراءة الكتب التي تزخر بها مكتبة الشيخ ومنهم من يستمع أو ينسخ من الكتاب مايروق له ليعاود قرائته فيما بعد كما يدور نقاش فكري وثقافي أثناء الجلسه بالإضافة إلى السجال والتحدي فيما بينهم في مجال قواعد اللغة العربيه حيث أن بعض قواعد اللغه تصاغ شعرا لكي يسهل حفظها. وهنا لا زلت أتذكر كيف أنني عرفت أن "الحال" دائما منصوب وذلك عن طريق حفظي لبيت أو شطر من بيت شعر كانوا يتداولونه في هذا الشأن وهو " والحال وصف فضلة منتصب"

جد وإجتهاد و مثابره قل نظيرها:

لم يصل المرحوم إلى ما وصل إليه من مجد ومكانة علميه محض صدفه بل كانت نتيجة جد وإجتهاد لقد وضع المرحوم لنفسه هدف وسعى من أجل تحقيقه ولله الحمد تحقق هدفه بكل فخر و ثقه أقول أن عمي المرحوم ظاهره قل نظيرها وأعتقد لو كان يعيش في أحد المجتمعات المتطوره لدرست هذه الظاهره إذ كيف لشخص بمحدوديته حيث كان فاقد لأغلب بصره ولم يدخل مدارس رسميه ليتعلم القراءه والكتابه يملك هذا الكم الثقافي والمعرفي واللغوي الكبير ليس فقط ذلك بل ويستطيع تدريسه لغيره! الم يكن سابقا لعصره في التعليم الذاتي؟

كان و منذ بداياته الأولى يقضي الساعات في التحصيل ولقد وهبه الله ذاكرة قويه وقدره سريعه على الحفظ حيث كان وفي الفترة التي لازمته فيها وقبل ان يبدأ الخطباء بالتوافد على مجلسه يبدأ بالمطالعه حيث يحضر الكتب التي يريد قراءتها من مكتبته العامره حيث كانت تشغل غرفة كامله من بيته (كنت أنظر إلى تلك المكتبه وأنا طفل وأسأل نفسي سؤالين كيف عمي يعرف مكان كل كتاب في هذه المكتبه الضخمه والسؤال الثاني متى عمي سوف يقرأ كل هذه الكتب ؟ كنت أقيسها بمقياس طفل في الصف الرابع إبتدائي حيث يحتاج إلى سنه لينهي مقرر المطالعه الذي لا يتعدى العشرين صفحه) وبعد أن يحدد الموضوع أبدأ أنا في القراءة وهو يستمع لي ويصحح أخطائي اللفظيه وكذلك النحويه بما يتناسب وسني وكان دائما يشيد بقرائتي وحسن مخارج الحروف لدي فكان مشجعا ومعلما جعلني متميزا في اللغة العربيه على أقراني في المدرسه حيث كنا نبدأ دراسة قواعد اللغه العربيه في الصف الرابع فكان يخصص لي وقتا ليشرح لي دروس القواعد.

 وفي أيام المناسبات حيث يحتاج إلى أوقات أكثر للتحضير و كذلك إلى تركيز أكثر فكنا نقضي أوقاتا للمطالعه منفردين في المكتبه. فلا عجب لو تسيد شيخنا وتاج رؤوسنا المرحوم أبا أحمد منبر القطيف لسنوات طوال أنا لا أقول كلامي جزافا أو عاطفة فالتاريخ شاهد فمأتم القطيف الرئيسي ولفترة طويله كان مأتم حسينية العوامي حيث كانت تغلق الطرقات لإستيعاب المستمعين في محرم حيث كان هو من يعتلي المنبر هناك وللسنوات طوال وذلك بعد إنقطاع مجيئ الخطباء العراقيين إلى المنطقه.

  

الكتاب ينافس لقمة العيش لدى المرحوم:

كان المرحوم شديد الحرص بكل ما للكلمه من معنى على إقتناء الكتاب فكان في تلك السنين وأنا أتكلم هنا قبل أكثر من أربعين سنه فما إن يحصل على المال إلا وخصص الجزء الأكبر منه إلى شراء الكتب إذ في اليوم التالي إن لم يكن في نفس اليوم مباشرة نذهب إلى القطيف قاصدين مكتبة المرحوم عبد اللطيف الزاير حيث كان يجلب الكتب الشيعيه من العراق أو نذهب إلى الدمام إلى مكتبة المتنبي للشراء الكتب والمجلدات وكذلك هناك أشخاص معروفين ببيع الكتب كانوا دائما يأتون إلى مجلسه كلما توفرت لديهم كتب جديده حيث لا يتوانى عمي عن إقتناء الكتاب

وكان شديد الحرص على إقتناء النسخ الأصليه من الكتب ولو غلا ثمنها وكان كثيرا يبتعد عن النسخ الغير أصليه وأعتقد ليس عبثا يعمل ذلك بل أعتقد جازما أن هناك هدف أو سبب لذلك.

 

مدرسة بأفعاله قبل أقواله:

من أول الدروس التي تعلمتها منه وأنا في سن الثامنه هو مساعدة المحتاجين حيث سأذكر موقفين لا زالا محفورين في الذاكره وكأنهما حدثا للتو

الموقف الأول كان احد المؤمنين من ضعاف الحال عنده نذر قراءة مصرع العباس فدعا عمي للقرائته وذهبنا إلى السنابس حيث منزل ذلك الشخص وبعد ان فرغ عمي من القراءه  ناوله أجرته أظنها كانت خمسون ريال إنتظر عمي عليه الرحمه حتى يتفرق من كان يستمع ونحن خارجون من المجلس قام برد ذلك المبلغ إلى الرجل وقال له هذا  هدية مني إلى أطفالك وأخد يحدثني ونحن راجعين ناخذ تاكسي إلى تاروت  يقول لي ياولدي هذا رجل فقير الله أعلم كم يوم جلس يكدح حتى يجمع هذه الخمسين ريال ويمكن يبقى يومين دون ان يجد شيئ ياكله. ياله من موقف وما أنبله من درس لايمكن أن انساه ما حييت وكل ماذكرته سالت دموعي.

 

الموقف الثاني كنا في حسينية محمد علي "العزيه" (في حي الديره بتاروت) في زياره للمرحوم ملاعبد الله المبشر حيث كان الله يرحمه من المواظبين على زيارته وكان هناك مجموعه من المؤمنين إذ حضر أحد الأشخاص وكان عنده ساعة منبه "سيطور" يدلل عليها ليبيعها حيث في ذلك الوقت كان تلك الطريقه مألوفه في البيع وعمي الله يرحمه كان ممن يهوى جمع الساعات فصارت المزايده من الحضور الراغبين في الشراء فتمت البيعه على عمي بفارق ريال عن الشخص المنافس فكأنما حط ذلك الرجل في خاطره وقال لعمي لماذا  تزايد علي قال له عمي هي مسألة ريال فرد الرجل  الريال يجيب لي وإلى عيالي كيلو رز وأنت لا يضرك ذلك أثر هذا الكلام على عمي  فقام وأعطى ذلك الرجل الساعه وقال له إقبلها مني كهديه فأخذها من عمي. (قمة الإيثار)

هذان الموقفان أتذكرهما بكامل التفاصيل وأتذكر الأشخاص رحمهم الله من مات منهم وحفظ الباقين.

 

ومن دروسه التربويه وما أكثرها كان رحمه الله يشجعني ويحثني على القراءه خارج ماأقرأه له فكان يعطيني الكتب ويقول لي إذا رحت البيت إقرأهم حتى لا زلت أتذكر موقف لا يخلو من الطرافه أو شطانة أطفال من قبلي

عندما كان عمري تسع أو عشر سنين لا أذكر أعطاني عليه الرحمه كتاب إسمه عقائد الإماميه للمظفر وقال لي خذ هذا الكتاب وإذهب به للبيت وإقرأه بتمعن

أنا أخذت الكتاب وأهملته في البيت ولم  أفتحه, بعد إسبوع أو إسبوعين أخذ عمي يسألني أسأله من محتويات الكتاب ولم يكن بمقدوري   أن أجاوب على أي سؤال وهو يعرف لو اني قرأت الكتاب لما صعبت علي الإجابه فا ضطررت ان أقول له أن الكتاب ضاع مني طبعا هو لم يصدق هذه المقوله ولكنه وبإسلوبه التربوي قام وأعطاني نسخه ثانيه من الكتاب طبعا هذه المره إستوعبت وأخذت أقرأه بتمعن وصرت أنا الذي أسأل عمي عن أي شيئ لم أستوعبه في الكتاب وبهذا زرع حب القراءه في نفسي وجعلني أشعر بأهميتها ومن يومها أيقنت إن القراءْه لها دور كبير في صقل الشخصيه وبناءها بحيث يكون لها حضور ورأي في أي مجلس عوضا أن تكون شخصيه هامشيه.

فجزاك الله عني ألف خير ورحمك الله برحمته فأنت محفور في القلب وفي الذاكرة إلى الأبد.

 

وصفي البصاره

أكتوبر عام 2012
اضف هذا الموضوع الى: