للدمعة فلسفتها وضوابطها وفرسانها. عندما تقرأ في سيرة الأئمة تجد حرصهم الشديد على إقامة المجالس التي تتناول مصاب أبي عبدالله الحسين ويحثون أصحابهم وأتباعهم على المداومة على إقامتها والتركيز على الجانب الوجداني المتمثل في البكاء وذرف الدموع عن طريق النواعي والرثائيات.
ولذا احتل الجانب الوجداني حيزا كبيرا من المنبر الحسيني. بيد أن هذا الحرص المركز من قبل الأئمة على البكاء والتباكي يدفع أي متأمل للتساؤل: هل هذا الحرص الشديد والحث الذي بمستوى المستحب المؤكد على الجانب الوجداني من قبل الأئمة لتحصيل الدمعة والثواب فقط أم يهدفون إلى شيء آخر وراء الدمعة؟ وبصياغة آخرى: ما الفلسفة التي تختفي وراءها تلك الدمعة؟
عندما أقول بأن حث الأئمة على الجانب الوجداني لتحقيق الدمعة وكفى، فهذا يشير إلى قصور قراءتي في الوصول لمراد الأئمة من هذا التركيز الحثيث على الجانب الوجداني. وأستطيع أن أقول أن من يفهم حث الأئمة على هذا الجانب بهذه الرؤية فقد قرأ مقاصد الأئمة قراءة ظاهرية سطحية قشرية.
إن من يقرأ في أعماق وبطون الروايات التي تحث على البكاء على مصاب أبي عبدالله متأملا مدققا تتولد في داخله مجموعة أسئلة فكرية وهي: من نبكيه؟ ولماذا نبكيه؟ وماذا قدم للبشرية والإسلام من أجل أن نبكيه؟ انقداح هذه الأسئلة في نفس الباكي مؤشر حقيقي على أن للبكاء فلسفة وقيمة معيارية في تقييم القيم من شهادة وتضحية وإيثار ووفاء ونحو ذلك وتقدير حامليها. وهذه الفلسفة والقيمة المعيارية يكون لها أثرها الفاعل على النفس إذا ترجمت إجابات تلك التساؤلات إلى نهج تطبيقي يسير عليه الإنسان في حياته. وأيضا لا أغفل دور الجانب الوجداني في بناء الارتباط العقدي والولائي بآل البيت .
وهنا في هذا المقام سؤال يفرض نفسه: إذا كانت الدمعة تختزن شحنات وطاقات إيجابية ينبغي أن توظف لتحقيق أهداف سامية... فهل جميع الخطباء يعون ويدركون ما تحمله تلك الدمعة من تأثير في بناء شخصية المستمع العقائدية والولائية؟
الخطباء ليسوا على مستوى واحد في إدراك فلسفة الدمعة إلا أننا نستطيع أن نفرز منهم نهجين بارزين على هذا الصعيد:
النهج الأول:
نستطيع أن نطلق عليه النهج القيمي العقدي، ويرى أصحاب هذا الاتجاه بأن للدمعة فلسفة عميقة تعمل على ترسيخ العقيدة والارتباط الولائي بآل البيت. فيوظفون امكانياتهم الصوتية والتصويرية للتأثير على المتلقين فيتسللون إلى أعماق قلوب مستمعيهم بسلاسة وعفوية دون الوقوع في محاذير شرعية أو أخلاقية.
ولهذا النهج فرسانه بيد أن هناك فارسا بزَّ وفاق أقرانه في هذا الاتجاه وهو الخطيب المرحوم أبو أحمد ملا عبدالرسول البصارة عليه الرحمة. ما إن تطل علينا أيام عاشوراء إلا والجميع يتذكر رثاءه المفجع وصوته الشجي. كيف لا يتذكره الناس وهو قد نقش اسمه بأحرف من نور في قلوب عاشقي الحسين بعطائه الممتد إلى أكثر من نصف قرن أسس خلاله مدرسة وجدانية - يستلهم منها الخطباء الصاعدون الدروس - قوامها دمعة ذات بعد عقدي قيمي لا يفهمها إلا من يستحضر الحسين روحا ومعنى من خلال صوته الشجي.
النهج الثاني:
أصحابه ينتهجون نهجا ذرائعيا «الغاية تبرر الوسيلة». الهدف والغاية لديهم استدرار الدمعة بأية طريقة كانت ولتحقيق هذه الغاية يعمد أصحاب هذا الاتجاه إلى ما تفيض به مخيلتهم وتأليفاتهم وتصوراتهم والمبالغة وعدم التدقيق والتحقيق في منقولاتهم التي تستبطن محاذير شرعية أو أخلاقية أو عقدية.
فالمهم عند هؤلاء استدرار الدمعة ودغدغة المشاعر ولو كان على حساب العقيدة والقيم الأخلاقية.
وهنا من باب الرصد الجزئي لمخالفات خطباء هذا القسم للعقيدة سأذكر أنموذجاً واحداً كشاهد على منهجية هؤلاء:
خطيب يريد أن يستدر دمعة الحاضرين استعان بتأليفاته أو من روايات غير مدققة التي تختزن محاذير عقدية ستتضح لنا لاحقا، إذ يقول:
إن الله قد أرسل يوم العاشر إلى كربلاء أربعة آلاف ملك لنصرة الحسين بيد أنهم وصلوا إلى المعركة متأخرين فوجدوا الحسين مضرجاً بدمه ورأسه قد فصل عن جسده فظلوا يبكون عند جسد الحسين فلنبك معهم.
أيها الخطيب الذي لا نشكك في حسن نواياك وتعلقك بالحسين ولكن الأجدر بك التأمل في ما تطرحه هل يتضمن محاذيراً شرعيةً أم لا؟
طرحه حافل بالمحاذير الشرعية وهي:
1 - جعل الله ليس عالماً بما جرى على الحسين - أستغفر الله العظيم - باعتبار أنه أرسل ملائكته متأخرين.
2 - هذه القول يستبطن محذورا شرعيا آخراً وهو تأخر فعل الله عن إرادته. فأين هذا الخطيب عن قول الله تعالى «إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون».
أبا أحمد أخاطبك:
عندما أستمع لمثل هذه الترهات من أصحاب النهج الثاني تقفز إلى ذهني صورتك الناصعة كعميدٍ للمنبر الولائي العقدي وفارسٍ له وقدرتك ومهارتك في استدرار الدمعة التي ترطب العين وتلامس شغاف القلب وكيف لا تلامس شغاف القلب وهي دمعة تستحضر في النفوس معنى الشهادة وتتسلل إليها لتزكيها وتهذبها.
نعم يا أبا أحمد لدمعتك خلود بخلود معانيها.